لازالت غزة تملك قلبا وروحا..!!
هداية شمعون (*)
يحب
البعض أن يلبسنا ثوبا ظاهريا ليراه الآخرون أسطوريا وكأن الحياة ماتت بداخلنا..؟؟!!
يصر الكثيرون على أن الغزاوي صامدا صامتا لا شأن لقلبه ولا لروحه بما يدور من
تصعيد وكأنه كتب عليه الشقاء والوجع...لا أعرف لماذا لا أرى ما ترونه ولا أشعر بما
تشعرونه فهل أنتم تشعرون بنا..!!
أن تمارس
حياتك بينما القصف مستمرا هي أبجدية الحياة التي لا تختلف عن أبجدية الموت.... هي
مقطوعة موسيقية حزينة خضعت للتأليف سنوات وقابلة للتجدد والتغير فليس معنى أن
تمارس حياتك أنك أصبحت الإنسان منزوع الإحساس.! ولا يعني أيضا أنك البطل الأسطوري
الذي تراه في أفلام الأكشن.. إنه ببساطة اخترع معزوفته وحيدا لأنه ترك وحيدا..!!
اليوم في
طريق عودتي من عملي بغزة كانت الشوارع من غزة إلى رفح شبه خاوية تشق العربة طريقها
وكأنها تركض من الحياة لبلد مجنونة كانت في قمة العقل قبل ثواني زمنية معدودة ثم
فقدت صوابها مرة واحدة. ..!
في
السماء حيث ترقب عيوني سحب بيضاء بأشكال مختلفة وصوت السائق الذي يكاد يريد أن يقف
بي لنتمكن من رؤية أشكال السحب الناتجة عن انفجارات الصواريخ بالقبة الحديدية
والتي تكاد أن تشكل لوحات فنية غريبة بغرابة هذه المدينة، ثم تفاجئنا أصوات
انفجارات مهولة ناتجة عن القصف الإسرائيلي على مدار الطريق.. صوت الانفجارات وحركة
الطريق السريعة وركض أطفال المدارس في الشارع وقد بدا على وجوههم التشتت وبعضهم
يضحك بصوت عالي.!!.. فهل الضحك مؤشرا للفرح أم أنه في حالتنا مؤشر لدرء القلق
ومحاولة هزيمة الخوف..!
هذا المشهد أعادني لعدوان 2014 تحديدا وصوت
المذياع والأغاني الوطنية وتلك النبرة للمذيعين الذين تشعر بهم يلعبون بأعصابك
وتشعر كأن الدنيا قد انهارت فوق رأسك مرة واحدة..!! تشعر بأن الإذاعات تسترق
عواطفك وتكون مستعدا لتلعن الاحتلال وتوحي لك بأننا بخير ويأسرك خطاب رنان وكلمات
شعاراتية عاطفية كما اعتدنا من مسؤولين فيلبسونك ثوب الصمود والقوة فتصبح أحدا لا يقهر!!!
يا إلهي..! قلبي ينقبض مع صوت الانفجارات
وشريط عدوان يسترسل في ذاكرتي شعرت بالخوف.. نعم.. مما رأيناه ولأن بشاعة الحرب لا
يقدر خيبتها إلا من ذاقها.. نعم بتنا مختلفين الآن في ردود فعلنا ونتجاهل الكثير
من المخاوف لكن هذا لا يعني أننا لم نعد نشعر؟؟ اليوم كانت حياة عادية جدا ننتظر
بداية شهر رمضان نفكر كيف يمكن أن نحتفل بقدومه.. تلغي كل شيء فجأة..! وتتقافز
عيناك فقط على متابعة الأخبار
هل فقدنا الأمل في كل القيادة السياسية؟!
بالتأكيد..
هل تشعر
أنك رهينة طيلة الوقت؟!
نعم نحن كذلك..
هل تتكرر
ذات الأخطاء وذات الغباء في كل مرة بعاطفة مبالغ فيها نلقي الوعيد..
نعم
هل هذا السيناريو جديد.؟!
لا بل
سيناريو مكرر وبات مقيتا..
الناس
تحاول أن تمارس حياتها وتتجاهل المذياع والاستعطاف الإعلامي الغبي لأنها تعبت
وتشعر بالقرف مما يدور، بائع الذرة يخبرك بأفضل تحليل سياسي فلا تجهد نفسك
بالاستماع لأحد المشاهير المكررين.. تلك المرأة العائدة من السوق تفكر بأن
الكوبونة لن تكفيها سوى بضعة أيام أولى من شهر رمضان ثم ستغدو بلا لقمة لها
ولعائلتها.. تمشي في السوق المتهالك على ذاته وقد انطفأت كل أغاني رمضان وانطفأت
الفرحة في عيون الجميع فلا شيء يفرق الآن ما هو الأسوأ بالنسبة لهم؟؟ الحالة
تعبانة..!! تعبانة.. يمر بك أشخاص حديثو العهد بالتسول لأن لغتهم مختلفة يطلبون
لمرة واحدة وما أن تشيح وجهك يغادرون.! الرجل الطاعن في السن يقف بجوارك ملتصقا
وسط الضجيج. الله لا يحوجك لحد مثلي وفي عمري.. ! ذلك الجيب اللامع يطير بمحاذاة
الطريق وكأنه لا يرى الناس.. صوت الانفجارات يعلو من جديد تستيقظ على تاريخ جديد
ليس 2014 إنك تتكرر أنت ذاتك وكل اللاعبين يعبثون بك وبمصيرك أنت غير مرئي..!! لماذا يصر البعض على أنك أصبحت بليدا لا يحق لك
أن تخاف ويضعونه ضمن سمات البطولة؟! ماذا يريدون منك أكثر من صمتك؟! إنهم ينشطرون
على أنفسهم إنهم قطع لآلاف المرايا لم تعد تعرفهم؟؟! من الذي سيطعنك مجددا؟! هذه
المدينة المجنونة التي أكلت منك عمرك تعيد صوتها وتفقد صوابها لذلك لن تكون أحدا
لا يقهر فحسب بل اعتاد الآخرون أن تكون أسطورة ذلك النموذج الذي يرفع عنهم عجزهم..!
لماذا يتاجرون بقلبك ومشاعرك..؟!
تقوم بفعل الحياة وأنت تتألم تسارع لأن يبقى
أبناءك في البيت حرصا على سلامتهم لم تعد تفكر في المدرسة التي كان مقدسة كما في
صغرك، تقوم بفعل الحياة وتهزم الموت الذي يتمدد في المدينة المجنونة لا أحد يفهم
ما تريد قوله فما تشعر به يترجمه البعض لهزيمة وكأنك حطام سنوات مضت غير قابلة
للنهوض.. تقاوم حياتك فتخرج للشارع وتتماهى مع الناس.. تسمع طنين وجعهم كلما
اقتربت.. إنهم متعبون من التعب يقاومون من أجل لقمة العيش يفكرون بما قد يكملون به
قوت صغارهم لم يعودوا يفكرون بصوت الانفجارات لأنهم وحيدون ..!! الخوف الذي يتربع
في قلوبهم من قهر الغضب والجوع والانسحاق لم يعد يسمح بخوف آخر ففي الموت راحة في
بعض الأحيان وشهيدا يا له من راحة أبدية..! الخوف لا معنى له فيمن واجه قسوة
الحياة..!
السيارة لازالت تسير بسرعتها المعهودة والحياة
لازالت تركض من غزة.. لا أحد يعتاد الموت فبالكاد بدأت المدينة تعتاد الحياة.. إننا
قطعة القلب من المدينة المجنونة التي تصحو وتنام على قسوة الحياة... نحتفل بجمال
مدينتنا بنا ونبتعد قليلا عن تسارع الأخبار.. نحاول أن نسقط الخوف من عيون صغارنا
فيسقط الخوف سريعا من عيون صبا تلك الطفلة ذات العامين وتسقط روحها هي لم تعد
خائفة الآن ..! وضعت الخوف والترقب وصوت المذيعين المنفعل وتلقي بحياتها ببساطة
فالكل يلبسها ثوب الشجاعة والقوة والصمود.. هي صامدة وشجاعة وقوية لكنها لم تعد
تريد هذه الصفات لها أو لمدينتها.. إنها الآن جثة هامدة لا تعرف كيف ستتركها أمها
الجريحة فلسطين..!! وكي لا تجيب أو تفكر في لوعة القلب لترك فلذة كبدها لحقت بها
شهيدة.. لقد لفظتا الخوف من حياتهما.. لا تحاولوا أن تضحكوا كثيرا ولا تكثروا من
السخرية من الموت.. هذا الموت حقيقي إنه ليس مضحكا.. ونحن لم نعد مضحكين!! وأنتم
لم تعودوا مضحكين.!! لا تعبثوا بمصائرنا ولا تدعوا أننا لم نعد نخاف ولم نعد نحب
ولم نعد أحياء.. إننا نشعر بالألم سنختفي بعد قليل كي لا تمسنا صور جنازات
الشهداء، ولا عيون من ظلوا من عائلتهم أحياء ولا صرخاتهم.. إننا نخشى هذا الحزن
لذلك لا زلنا نشعر بالخوف إننا أحياء نرزق أمنيات وأحلام تكبر كل يوم فيصغر خوفنا..!!
لا خوف
من الموت فهو الحقيقة الكونية التي ارتبطت بنشأة الحياة لكننا نخاف الوجع والفقدان
والقهر نخاف أن تنطفئ لمعة عيوننا وعيون أطفالنا، نخاف رغما عنا فلازلنا بشر نملك
قلبا ولازالت روحنا حية.. لم نمت أجسادا ولن نمت روحا.. السيارة لازالت تأكل
الطريق الطويل وصوت المذيع يتهدد ويتوعد ويأكل الكلمات الثورية فتصرب يدك برأسك..
في أي عام نحن الآن؟! من هؤلاء الذين يحيطون بنا؟!
أرجوك..
أطفئ المذياع..!! أطفئ الموت..!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتبة
وإعلامية تقيم في قطاع غزة