0

موت مذبوح

من تأليف: هداية شمعون - بتاريخ: 2009-10-27

- يا أمي ..اقبلي اعتذاري..

- علام يا ولدي.. 1828_p51133

- آه ..يا أماه ..سامحيني..

- آه يا ولدي..في أتعس تخيلاتي لم أر هذا..

- أماه أرجوك .. رغما عني…يعز علىّ أن …. آه كنت أريد ….

نحيبه يعلو ..وحيدا جالسا يحدق فيها مسجية أمامه بلا روح .. الرمال من حوله …..الصحراء تمتد بلا حدود..القبور متلاصقة الأعشاب الخضراء تنمو رغم الموت..البرد شديد لكنه كان يهذي… قدماه كلت من التعب ، الحمل كان ثقيلا ثقيلا,, أنفاسه تختنق كلما حدق في عينيها كان وجهها شاحبا ..تجاعيدها القديمة ترسم بسمة حزينة على جبينها شفتيها صامتتين ..تلك الأخاديد منهكة تحت عيونها.. غطاء كبير يلتف حول جسدها تلك الطرحة البيضاء التي تزين رأسها.. كان البرد يشتد …..يحدق في جسدها المسجي ..قطرات المطر تناشد شفتيه الجافتين تهذب شعره المشعت ..تغسل أوساخ الطريق الرملي الطويل ..الحواجز التي امتهنت كرامته ..ضحكاتهم الساخرة لازالت تعصف بكيانه ..أسماله البالية ترسم وجعه ..

- ويحهم لم يتركوا دمعتي ترثيها..

عاد يحفر بعينيه جسدها المبلل ..صفير القبور يعلو من حوله……. من بين ثناياه تبرز العتمة أنيابها.. يهبط الظلام دونما استئذان طفل يقترب عاري القدمين يلكزه بكتفه ..

- يا عم..يا عم ..

فرك عينيه بقوة ..اعتصر دمعه لكنه أبى.. حدق في الصغير ملامحه جميلة رغم القذارة التي تملأ وجهه ..يمسك بعصا صغيرة وقد تقطع بنطاله ….. مبتسما رغم الموت الذي يعربد حوله … أشار الصغير إلى البيوت الملاصقة للمقبرة قائلا :

- الناس يطلبون مني دائما ماء حين يأتون هنا لكن أنت لن تطلب أليس كذلك .؟

نظر إليه مستفهما..فأردف دون انتظار وبسرعة من اعتاد على استقبال الغرباء وموتاهم :

- دعني أساعدك ..

لكنه أشاح بوجهه .ألقى بنفسه على صدرها وطفق يبكي بهستيريا صارخا..

- سامحيني .. سامحيني.. هم لا أنا .. هم من قتلوا دمعتي في مهدها هم منعوا الجنازة أن تمر لقد سئمت ظلمهم غيهم عبثهم بمصائرنا أرادوا أن أدفنك بساحة الدار كانوا يضحكون …و بقلبي يعربدون ..القتلة اعذريني … اعذريني حملتك لساعات وساعات كانوا يقهقهون بملء فيهم وأنا مكبل بجثتك …….. سامحيني ساعديني ..

- يا عم ..يا عم .. إنها تريد أن ترتاح دعها تذهب الآن

صمت فجأة نظر للصغير وأمسك به فقد وعيه ..همهم بكلمات مهددة متوعدة غير مفهومة … صرخ الصغير بين يديه المتشققتين …

- إنها تريد الأرض ..دعها تذهب إلى الله …. وتخلد للراحة

تراخت يداه تمدد على الرمال ..الشوك يتسلل لجلده .. أناته تصهل ألما وقهرا ..يمرّغ وجهه بالتراب يتذوق طعمه ، يتصلب المطر.. صوت بالكاد يتسلل لأروقته المدمرة ..يكتم أنفاسه ..الصحراء تمتد أمامه هل يخرجون بالليل هل جاء موعدهم ؟.. استجمع ما تبقى له من قوة ..رفع رأسه همس ..أمي.. هل أتوا ……

حدق في الرؤية الضبابية اقتحمها.. الصوت يزداد علوا..نقرات صغيرة ..جلس بعد جهد مضني التفت يمينه رآه يحفر بعصاه الصغيرة بجانب أحد القبور..

- تمتم بألم … يا الله ..يا الله ..

الصوت يتردد ..دعها تذهب إلى الله..

كانت مريضة ..البيت الريفي محاصر.. البيوت كلها مخنوقة بوجوههم الكالحة.. لا خبز لا دواء.. جنود الاحتلال يعيثون فسادا بأجسادنا.. أمي تحتضر ضحكوا أطلقوا كلابهم تقتفي أثرنا.. العضة المسمومة تخترق جلدي لكن أمي مريضة .. أمي تموت والعالم يموت ..لم يتبق لي غير رسمها القديم ..طلقات الرصاص تحفر الأرض حول قدميّ أخاديد … أغلقت الباب مهرولا زخات الرصاص تأكل جدران البيت ضحكاتهم تتربع في مخيلتي تهدر بقايا كرامة ولت من عشرات السنين .. تدفن فرحتي جنينا.. أمي تحتضر .. أمي ماتت لا جنازة لا تجمهر.. لا بشر يسيرون بالكفن .. أحملها الآن إلى المقبرة ابنها الوحيد المتبقي.. لكني مصاب بالوجع وأنت ميتة ميتة المقبرة بعيدة ….أقدامي ذابت من الأنين ..دعوني أستنجد بجيراني دعوا الطير يهب لنصرتي …عذبوني يا أماه ..

- احملها الآن أو نترك الكلاب تنهش ….

- ….. لا لا لا

حواجزهم تقطعني مئات المرات …. أصواتهم المقيتة تنغمس خناجر بخاصرتي .. أيديهم تثير غثياني .. تحرق بكائي مشيت أنهار وأفلاكا وها هو ذا يحفر قبر أمي بيده الصغيرة..

…زحفت حيث عصاه ….أخذت أحفر بأصابعي ..وظللت أحفر…

إرسال تعليق Blogger

 
Top