غزة تنجو بموتها
كيف سنجيب اندهاش من بقي منكم حيا!!
بقلم: هداية شمعون (*)
بعيون غائرة وهالات سوداء نستقبل يوما ونودع يوما فيما أبواب عيوننا مشرعة، لا تكاد تفعل حتى تفزع على غارة جديدة من الطيران الحربي الإسرائيلي، أجواء السماء الصافية تعكرها صوت طائرات الاستطلاع تلك التي تحمل الموت مع كل نفس لنا في الحياة، هي معركة بين أن تحيا لدقائق أخرى أو تموت وتدفن في تراب بيتك، لا مساحة رمادية بينهما مثلا كأن تسرع بالهرب لا تجهد نفسك بالتفكير فلا وقت لكل هذه الأشياء..!
أول أمس فزعت على جيران لنا قد تركوا منزلهم رغما عنهم لأن البيت الذي بجوارهم قد أطلق عليه صاروخ استطلاعي ( هذا الصاروخ الذي نتحدث عنه- يقتل ويفتت إنسان إن أصابه ويدمر بيتا لكنه يبقيه على وجه الأرض) فيما صاروخ طائرات الـF16 فهو يسحب أنفاسك ويجعلك تقرفص في هيئتك أيا كانت وتغطي أذنيك من شدة الانفجار وصراخك يكون قد تمزق بفعل دفعة الهواء التي عصفت بك فيما يبقي بيتك مرتجا كأنما فقد توازنه وتبدو كمن خرج من حلم مؤرق، تتحسس بقية أجزاءك ويأتيك صوت هذا القصف بعيد إنه على بعد عدة أمتار.. ولا تكاد تكمل المحادثة حتى يتمزق حديثكما مرة أخرى بفعل صاروخ آخر وآخر..لا تسألوني عن الوقت فالليل غدا نهارا بفعل هذه الانفجارات المسعورة لأن الدنيا كلها تضيء تماما ونتسأل هل بقي أحياء بعد كل هذه القصف..!؟ نحاول أن نهدىء روع صغارنا لكنا نبدو بحاجة لمن يهدىء روعنا، ما معنى الحياة في ظل هذا الرعب الممنهج؟!
ما بين منشورات تلق لتهجير السكان من أماكن سكناهم وما بين اتصالات هاتفية تحذرك أن تتحرك من بيتك، ومن اتصالات أخرى تخبرك ببرود.. معك خمس دقائق لتخرج من البيت..!!
أين زوجك؟ ليس هنا..
حسنا: من معك بالبيت: أطفالي الستة.!
إذن أخرجي الآن ولا تفكري بأخذ شيء معك خمس دقائق فحسب.. ويضحك الصوت
يضحك الصوت وصداه يوقظها:
لم تجد وقتا لتعد أطفالها.!!
***
يا أطفال غزة: كيف سنجيب اندهاش من بقي منكم حيا!! حين تسألون: لماذا قتل صاحبي؟ لماذا دفن جاري في بيته؟ لماذا لا تتنفس رزان وحنين وعمر ووو .. لماذا لم نعد نرى حماما ولا عصافير؟ ولماذا لا يمكننا اللعب بالشارع أمام باب بيتنا؟ لم نعد نأمل بمنتزهات أو بنوادي أو بساحات فقط بالشارع.. حتى الشارع بات ممنوعا.. والبيت يهتز بنا كل حين؟ هل انتهى العالم ولم يبق غيرنا أحياءا؟
يا أطفال غزة: كيف سنجيب اندهاش المكلوم في أعينكم.. كيف سنصحو على يوم آخر وتشرب مقلتانا كل هذا الدمار من حولنا؟
تسأل الطفل: لماذا لا نخرج من منزلنا.. كل الأطفال ماتوا في بيوتهم؟ لماذا لا نخرج من بيتنا.. نريد أن نسكن خارج بيتنا وحين يقصفوه نكون قد طرنا بعيدا ربما عند عمي في مقبرته البعيدة.. فلم نزره منذ أيام.. لماذا قتلوا أطفال الزيتون وهم يلعبون في الشارع؟ ولماذا لم يجد أحدهم قدمه ..
قدمه: كانت قدمه سمراء وأظافره طويلة لم يجد وقتا لتقصيفها، كانت بشرته جافة ربما لم يشرب كثيرا من الماء وكانت قدمه نحيلة، ربما لم يجد طعاما كافيا أو أنه لم يكن يشعر بالراحة.. تخبرنا قدمه أشياء كثيرة..
مشت القدم وحدها وبحثت عن صاحبها لكنها لم تعثر عليه فقد امتزج اللحم بالموت بالحقد بقطع الصاروخ المتفجر بالخيبة وبالوجع.. عادت القدم ولفظت أنفاسها حين أدركت أنها جزء من جسد طفل فلسطيني كان يلعب مع جيرانه وأقاربه، فلم تعد تقو على الحياة بقسوتها..!!
ودعت الأم صغيرها وصغار غيرها لأن المشفى جمعهم في قطعة قماش واحدة، لم تنظر الأم لأنها فجعت وظلت عيناها محدقتان في الأشلاء المكومة أمامها، ولم تبك لم تبك الأم طفلها رغم أن عويلا انطلق من صدر كل الأمهات من لهن قطع لحم ومن شهدن القصف ونجين من المجزرة.. صمتت الأم وأشاحت بوجهها عن وجه الحياة..
***
متسعا من الوقت:
أريد متسعا من الوقت لأبكيهم، لأتنفس موتا، من حقي أن أمعن في الموت أكثر فكيف سأنساهم بعد أن عرفتهم في ومضة الحرب.. نعم يكفيني أنهم أطفال ملائكة صغيرة كانت تجابه حياة قاسية في غزة، يتجولون في شوارع المخيمات، ينحتون خشبا ويصنعون طائرات ورقية، لم يحضر لهم أهلهم ألعاب الكترونية أو دمى كتلك التي شاهدوها في التلفاز لأنهم بالكاد يسدون رمقهم، وبعضهم كانت له ألعاب كثيرة كتلك في التلفاز وأحبوها ولكنها امتزجت بلحمهم؟؟ كيف لي أن أنسى تلك اللحظات المجبولة بآخر أنفاسهم والتي توقف فيها قلبي، اسمحوا لي يا رفاق أن أحظى بزاوية من غرفة البيت المتصدع وأتأمل صمتي ولقطات تهوي بسرعة الصاروخ في ذاكرتي.. اسمحوا لي يا بشر أن أنعيهم بصمت وألا أزور عائلاتهم فلن أواسيهم بل سأشعل حزنهم وأنبش جرحهم.. لن يقوى قلبي الضعيف أن يؤازرهم ولو بكلمة، أو سأضع جدارا فولاذيا لأقوى بالنظر لعيون أم واحدة منهم..!!
اسمحوا لي أن أدعي الاخلاص وأن أصمت عن الكتابة لأنهم يطوفون في جوفي الآن، يمزقون جدار قلبي وهم لازالوا يتألمون/يحترقون/يتطايرون/يصرخون.. مفجع هذا الموت بقسوته، هل رحلت الطائرات ؟!! هل تذكر الطائرات كم طفلا قتلت؟ كم بيتا هدمت؟ كم قلب فجعت؟؟!
***
هذا الصاروخ ينفجر، الدم يسيل، تتناثر حجارة البيت، يغطي وجهي التراب، كنت أمد يدي نحو أمي لألتقط كسرة الخبز، بحثت عنها كثيرا بعد الردم، وجدت كل الخبز إلا تلك الكسرة!! وكيف سأجدها يجب أن أجدها لأنها آخر ما لمست أمي..!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتبة وإعلامية تقيم في قطاع غزةhedayapress@yahoo.com
إرسال تعليق Blogger Facebook