0

النساء واجترار الخوف والمعاناة

هداية شمعون(*)

سماح سيدة فلسطينية تجتهد لتوفر لأطفالها عالما من الراحة والحنان وتبذل كل جهودها لأجلهم، تحاول أن تخلق لنفسها حياة هادئة إلا أن الحرب الإسرائيلية صدمتها وجعلتها تجتر آلاما ومواقف مفجعة فقد نجيت من الحرب الأولى بأعجوبة وما أن حدثت الحرب الأخيرة على غزة حتى أيقظت كل أوجاعها ومخاوفها مرة أخرى..

تقول سماح وهي تتنهد بألم:

"صدمتي أساسا في الحرب الأولى حين وقع الاجتياح البري ووصلت دبابات الجنود الإسرائيليين حتى باب عمارتنا في شارع الصناعة عند ملعب برشلونة، وبدأوا يطلقوا قذائفهم على البيوت بشكل جنوني، وأصوات القذائف جعلتنا نرتعش خوفا، واختبأنا في بير السلم للعمارة، وظللنا ما بين الانفجارات حتى الساعة (6) صباحا طلعنا واجتمعنا نحن و20 عائلة تقريبا على الدرج في بير السلم، كان شعور مؤلم وصعب كثير، ورجع القصف بشكل جنوني فأطلقوا 7 قذائف في اتجاه بيوتنا، وأصابت الشقق بعضها فوق شقتنا وبعضها أسفل واشتعلت النيران في هذه الشقق والصراخ يملأ المكان كبار وصغار وكلنا تشاهدنا على أرواحنا، لأن المكان صار كله دخان أبيض ودخان أسود بفعل الحرائق التي اشتعلت، والزجاج يتهشم وبقينا في هذا الوضع حتى (9) صباحا، وأحد الجيران لم يتحمل كل هذا الخوف والرعب فأخذ ابنه وزوجته وحاولوا الهرب، وإحنا بنصرخ عليهم، وما ان أدار محرك سيارته، قصفوا سيارته بقذيفة إسرائيلية، وولعت فيهم وانهرنا كلنا وصارت معنا حالة هستيريا لم نتعافى منها إلى اليوم."

 

59000_468565016519201_1798717307_n

وتستكمل وكأنما الحدث تجسد من جديد أمامها وقد وضعت يدها على صدرها في محاولة للتنفس بشكل أفضل:

"أعلنوا التهدئة فخرجنا نجري كلنا مع أطفالنا والأرض من حولنا سودا والسيارات مشتعلة والزجاج والدمار مملي المكان، كنت أجرى أنا وزوجي وأبنائي الثلاثة حتى وصلنا قريب الوكالة بشارع الصناعة وما أن تخطيناها بدقائق حتى قصفوها ودمروها واشتعلت فيها النيران فوقعنا على الأرض من شدة الخوف والرعب فقد نجانا الله وأطفالنا في هذه اللحظة."

وتعطف سماح في حديثها عن العدوان الأخير على قطاع غزة فتقول:" وفي هذه الحرب نوفمبر 2012 بعد استشهاد الجعبري لم أكن أعلم بشيء، بالكاد عدت من عملي وأجهز الطعام للغذاء، فلا كهرباء عندي لولا اتصال من أختي أخبرتني أن هناك حربا، ونصحتني أن أترك شقتي لأنها تعرف ما مررت به من قبل، وأطفالي لازالوا بحاجة للرعاية من الصدمة التي تلقوها، حاولت أن أفهم ما يدور وشغلنا الموتور بسرعة، ولم نكد نفعل حتى هز البيت قصف عنيف جدا واهتزت كل العمارة بسبب انفجارات لصواريخ الطائرات الحربية F16 حيث استهدفوا بين أبو شباك خلفنا بـ3 صواريخ مباشرة، وقع ابني في غرفته حين انكسر عليه زجاج النافذة على ظهره، ووقعت كل نوافذ البيت والأبواب تفسخت، هربنا بسرعة من البيت لنجد كل سكان العمارة بالخارج على باب الدرج وصرنا نجري.. لكن الطيران كان كثيف فاضطررنا أن نرجع للعمارة وخفنا أن يتم قصفنا في هذا الوقت المشتعل، بقينا وأربع عائلات على بير السلم، وطيلة الليل القصف كان مستمرا، ثم عادوا وقصفوا خلفنا مباشرة لم ننم طيلة الليل فالأطفال كانوا بصراخ وبكاء مستمر، ونحن الأمهات كنا نرتعد خوفا على أطفالنا وأزواجنا وشعرنا بالعجز من حماية أنفسنا وعجز الآخرين عن حمايتنا، وظللنا حتى الفجر فقط نتضرع إلى الله أن يحفظنا، وحين تناهى لمسامعنا أن هناك وفدا مصريا سيأتي، توقعنا أن يهدأ القصف قليلا لم نترك أي فرصة للنجاة وطلبت سيارة لتأخذني وأولادي إلى بيت أهلي في رفح، وكانت الطريق فارغة تماما من أي مظهر للحياة فلم أجد أي سيارة تتحرك أو بشر وكنت أدعو الله طول الطريق، أولادي حتى الآن وبعد انتهاء الحرب وهم مرعوبين أصبحوا يكرهوا البيت الذي نسكن فيه ولا يريدون البقاء فيه فلم يعودوا يشعروا بالأمان فابنتي الصغيرة ذات الــ 6 سنوات تلتصق بي طيلة الوقت ولا تنام إلا وأنا بجوارها وتصرخ كثيرا في نومها."

وتكمل:" لم أعد أشعر بطعم للحياة، لقد صادروا منا حقنا في الحياة وفي العيش بأمان وكرامة، و ورثونا شعورا دائما بالعجز لحماية أنفسنا وأطفالنا، الحرب ليست اطلاق الصواريخ والقتل فقط، فنحن الأحياء بحاجة للدعم والتفريغ لا أن نلتصق فقط بكلمات الصمود دون حتى أن نتنفس ونبكي ونفرغ ما بداخلنا، أنا إنسانة ولي طموحاتي ولدي أسرة وأعمل كيف يمكن أن أواصل في كل هذه الدوائر دون أن أشعر بقليل من الراحة وأن هناك من يفهمني ويساعدني!؟؟."

سؤال كبير تركته سماح في نهاية حديثها للمؤسسات وللجهات المسؤولة والرسمية فهل من مجيب؟!

سماح ليست إلا نموذج لنساء فلسطينيات كثيرات يعشن في الحرب وخلال العدوان الإسرائيلي ينسين أنفسهن في سبيل الدفاع عن أسرهن وعائلاتهن، وحين تنتهي الحرب لا يبحث أحد على ما في قلوبهن، يهرع الإعلام إلى القتلى والجرحى والمدمرة بيوتهم، لكن القليلون من يلتفتون أن في كل بيت معاناة إنسانية تتمثل في الحالة النفسية والاجتماعية وانعكاسات العدوان الإسرائيلي المستمر عليها، إن آلاف النساء الفلسطينيات بحاجة للتفريغ والدعم النفسي والمعنوي، وعلى كافة الجهات والمؤسسات أن تتكاثف وتعمل ضمن رؤية أكثر عمقا وشمولية للتخفيف قدر المستطاع من آلام ومعاناة مجموع النساء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) كاتبة وإعلامية فلسطينية تقيم في قطاع غزة

إرسال تعليق Blogger

 
Top