أثناء مجزرة رفح
كتبت: هداية شمعون
صوتها بكاء، عيناها كالجمر المتقد لامعتان، وجهها تملأه الحكايات الموجعة هي امرأة سبعينية معاناتها استثنائية عاشت الموت والحياة معا، احتجزت في بيتها أربعة أيام متواصلة مع زوجها بين القصف والشظايا المتناثرة، ملائكة الله كانت تحفهما فكتب لهما النجاة حين استجاب لدعائها الدائم اللهم نجنا.
اسمها "فرحة" لكنها لا تستطيع أن تبتسم.. وجهها يرتعش ويختنق صوتها من مرارة ما عانت، ولأنها فقدت ابنها الذي حاول أن ينقذهما من الحصار في بيتهم.. محاولة موجوعة للقبول بقلمنا ليجسد معاناة أم وجدة استشهد ابنها وواجهت الموت البطيء
وهكذا بدأت الحكاية
أعلنت هدنة لمدة 72 ساعة رحب بها بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة، ولكنها لم تكن أبدا هدنة ولا تهدئة بل كانت قتل ودمار وتشريد ومجازر في مدينة رفح التي زاد عدد الشهداء يومها عن 180 شهيد أغلبهم من النساء والأطفال.
مع إعلان الهدنة بدأ الآلاف من سكان مدينة رفح النازحين خاصة من المناطق الشرقية من محاولة العودة للاطمئنان على بيوتهم حيث مكثوا هذه الفترة عند أقاربهم ومعارفهم أو في بيوت ومراكز الإيواء في مدارس غوث وتشغيل اللاجئين.
بدأت التهدئة في اليوم الأول من شهر أغسطس الساعة الثامنة صباحا ووصل كل من الحاجة فرحة نصر الله شيخ العيد (72) عاما وزوجها نافل سلام شيخ العيد (80) عاما لبيتهم في منطقة الشوكة برفح ليطمئنوا عليه وليمكثوا فيه فترة الهدنة المعلنة، وضعتهم سيارة الأجرة والأغراض التي حملوها معهم وبالكاد تمكنوا من دخول منزلهم حيث أنهما كبيران في السن فالحاجة فرحة مريضة بالقلب، وتكاد تجر قدميها أو تسند على الجدران والكراسي كي تتمكن من التنقل من مكان لآخر، بينما زوجها مريضا وقد عانى من جلطتين سابقتين ويعاني من شلل نصفي في يده وقدمه اليسرى ويستخدم "الوكر الطبي" ليتمكن من التنقل، وبعد أقل من ساعة وصلت زوجة ابنهم سامي وأولادها، ولم تكد العائلة تستقر حتى بدأ إطلاق النار وانفجارات القذائف المدفعية بشكل جنوني وبات واضحا أن هنالك وضع صعب للغاية تعيشه العائلة، وسمعوا صراخ الجيران وهم يهربون ويصرخون على بعضهم البعض، كانت حركة غير عادية انتفض لها الصغار، ولم يجد الجد والجدة مناصا من اقناع زوجة ابنهم سامي بأخذ أولادها والهروب من الجحيم لأنهما كبيران في السن وسيكون عبئا عليها وعلى الصغار، ولن ينجو الجميع من الموت، وهكذا أقنعوها بالفرار بالأولاد خاصة وأن ابنهم سامي كان في طريقه لتخليص العائلة بعد أن علم بما حدث من خرق للهدنة واحتجاز العائلة بأكملها.
وتصمت الحجة فرحة تصمت طويلا وصدرها ينتفض ودموعها أسرع من كلماتها بينما العجوز يئن من الألم والبكاء مرتجفا بكل تضاريسه:" ابني سامي حاول المجيء حين عرف أننا محجوزين ليؤمن خروجنا من الشوكة إلا أننا علمنا أنه أصيب بانفجار صاروخي قرب صالة حمدان القريبة منا، كان الجوال وسيلتنا الوحيدة ليعرف أبناءنا أننا محاصرون ولا يمكننا الخروج من البيت، فنحن كبيران في السن ومرضى ولا نستطيع التحرك وحدنا."
"لما النار تهب بقلبي من الصياح والبكاء كنت أقول يارب"
وحول الأربعة أيام التي قضاها العجوزان في البيت وسط هذا الجنون تقول الحجة فرحة:" شو أصف لما أصف؟؟!! كانت شظايا القنابل والصواريخ تنفجر قريبا من البيت، وتدخل علينا حوش المنزل (فناء المنزل)، أضواء قوية جدا ونيران ملتهبة تضيئ بيتنا المظلم فقد عشنا أربع أيام كاملة بلياليها في ظلام دامس بدون كهرباء ولا طعام، كنا صائمين طيلة الأيام ليس لدينا إلا بعض ماء، لم نكن نتناول دواءا ولا طعاما، كانت صوت المجنزرات الإسرائيلية تطحن الأرض والبيوت وكنا في كل لحظة نتشاهد على أرواحنا، ولم يصمت لساننا إلا بالدعاء، لم نعرف طعم النوم، كان من حسن حظنا أن الحمام بنفس الغرفة التي نحتمي بها، فكنا نشعل الشاحن الوحيد الذي وجدناه كي نتمكن من رؤية المكان ونطفئه على الفور كي لا نلفت الانتباه إلينا، خشية أن يقتلونا في أماكننا، لقد عشنا ساعات وأيام مرعبة حقا، لم نعشها ولم نحلم أننا سنعيش لنحدثها لغيرنا."
وتستذكر الحجة فرحة قائلة:" كان ما يصبرني قلقي على ابني سامي المصاب كنت أشعر أنه استشهد وفي الليلة الأولى حلمت بجدي يجلس مع ابني سامي وحين أفقت من غفوتي قلت لزوجي لقد استشهد سامي رأيته في الحلم."
الموت مرافقا لكل نفس في صدرهم
وكأنها تحاول أن تستفيق من كابوس طويل تقول:" كنت من شدة الرعب من الانفجارات التي أحاطت المكان أضع المخدات الاسفنج التي بجانبي على رأسي وأجتهد لأخفي جسدي تحت السرير بدل من النوم عليه، كان الموت يحيط بالمكان، مكثنا أربعة أيام بأكملها فقط على شرب الماء وهو ما أبقانا أحياء، والخوف الأكبر أن الجوال فقد شحنته بعد الليلة الأولى وفقد أولادنا الاتصال بنا فأصبح الوضع أكثر قسوة وصعوبة علينا، رأينا الموت وعشناه وتذوقناه، لقد تعبنا كثيرا والقلق كان يذبحنا، كنت أدعو الله أن يفتح باب البيت علينا ويأتي أحد لينقذنا من هذا الموت، كنا نسمع صوت المجنزرات وصوت الانفجارات وصوت الشظايا التي كانت تدخل علينا الغرفة قطعا ملتهبة ولولا عناية الله بنا لقد مرت إحدى الشظايا قرب رأسي وشعرت بحموها ورأيتها تسقط امامي، وأخرى قرب أذني، وأحيانا كنت أغمض عيني وأخفض رأسي وأنا أبكي، لكن الله سلم ونظر لحالتنا البائسة ونحن دون سند أو معين فكان والمعين لنا في محنتنا"
كنت ابكي كثيرا وأصرخ ولكني كنت أكتم صراخي بالمخدات الاسفنجية والبطاطين كي لا يسمعني أحد، كنت خائفة كثيرا فامرأة كبيرة ومريضة بالقلب مثلي كيف لها أن تحتمل كل هذا الرعب وتعيش أربعة أيام متواصلة في جحيم وحرب مسعورة ولا شيء يعينني على الصمود سوى ابني المصاب وأملي برؤيته.
ويقول الحاج نافل :" وصلتنا رصاصات داخل الغرفة وكسرت شباك الغرفة اللي بيحمينا، وبنص الليل تصير الدنيا كأنه الشمس طلعت مرة واحدة من قوة الانفجارات ونخاف أنه اليهود يشوفونا، فكنا نزحف ونشد الشباك المكسور ونربطه بحبل ونربطه بمدخل الباب عشان يحمينا من الشظايا اللي بتطير كل شوي علينا شقف شقف، ياويلي علينا شو شفنا!! شفنا الموت وعشناه وغير الدعا ما كنا قادرين نقول وبدأ الوهن يدب في أجسادنا بعد ثالث يوم وصرت زي اللي مرمي بصحراء كلها نار غير شوية مية تبل الريق كان متنا من التعب والارهاق وقلة النوم والخوف."
ويبكي الرجل الثمانيني دون دموع ملامحه الغارقة في الحزن والألم لفراق ابنه الذي استشهد في سبيل انقاذهما يؤرق كل ذاكرته:" سامي يابا يا سامي كان جاي ينقذنا، لكن الله اختاره اتصاوب وظل بالمستشفى 3 أيام"
يتحول العجوزان فجأة لراويان محترفان يتذكران تفاصيل حجزهما وخوفهما والحياة التي وهبت لهما فيبدوان كأسطورة مجبولة بالقوة ثم بمجرد تذكرهما لوجه ابنهما الشهيد حتى تخور قواهما ويبكيان بمرارة..!!
الحجة فرحة تقول:" في صباح اليوم الخامس وكنا قد أصبحنا كورقة ذابلة ولم نعرف أي شيء بالدنيا وأظلم كل شيء وتشاهدنا على روحنا وودعنا بعضنا، حتى شفت أمنيتي بتتحقق والباب بينفتح علينا وبيدخل أولادي حسيت أغمي على من الفرحة ما صدقت أنه في حد قدر يصلنا، حملوني على كرسي متحرك والحج مثلي وكنا بنبكي من الخوف والفرحة بشوفتهم وقلبي بياكلني وما حطوني بالسيارة لحد ما قلتلهم سامي شفته، قالوا لي عايش، متصاوب لكن عايش قلتلهم لا تكذبوا، فسكتوا وصرت أبكي أبكي ما قدرت أسكت تأكدت أنه زي الحلم استشهد في المستشفى."
وطلعنا من الموت لنشوف ابني الشهيد بوسته وظليت أبكي كنت بدي اشمه واقله سامحني يما، ياريت ما جيت تنقذنا ياريتك ظليت لأولادك الثمانية لكن ربنا اختاره ونعم بالله"
***
وحاول ابنهما د. جلال شيخ العيد أن يصف لنا حالتهما حين وجدوهما بانها حالة صعبة للغاية فهما كبيران في السن ومريضان ووضعهم الصحي كان صعب جدا ووضعهم النفسي كان أصعب. يقول:" حاولت قدر المستطاع التنسيق لهم مع الهلال الأحمر ومع الصليب، لكن رفح كانت منطقة عسكرية مغلقة خاصة المناطق الشرقية ومنطقة بيت أهلي، وما يئسنا حاولنا لأقصى حد بعدين خفنا يموتوا من الجوع والعطش لأنه البيت مافيه أكل وهم أساسا مرضى فعملت مناشدة على الإعلام والفضائيات، ولقيت إخواتي من طرفهم راحوا اليوم الخامس رموا حالهم ع الموت لحتى يطلعوهم وأخذوا سيارة وبدون أي تنسيق وصلولهم والله حميد أنه نجاهم كلهم، وبنفس الوقت قدرت تصل سيارة اسعاف بعد ما أعطيناهم خريطة للبيت كنا مطلعينها من جوجل، الحمدلله أنه حد وصلهم وهم عايشين وأنقذهم."
***
تركنا العجوزان وتجربتهما المريرة المختلفة في مجزرة رفح فقد حفهما الله بملائكته بعد أن امتلأت ذاكرتهما بالخوف والرعب حيث أبت قوات الاحتلال الإسرائيلي إلا أن تسجل أسوأ أيام واقساها في مخيلتهما الهرمة..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) كاتبة وإعلامية تقيم في غزة
إرسال تعليق Blogger Facebook