0

نمضي غير عابئين بما حولنا، توحي لك الصباحات الأولى بأن يوم الحشر قد اقترب..عشرات بل مئات..بل آلاف من البشر طلاب وطالبات/نسوة ورجال/موظفون عابري سبيل، يتجمعون كخلية نحل عند كل موقف سيارات علهم يحظون بواحدة..تأتي بلونها البرتقالي-سيارة أجرة- تتمختر من بعيد ينقسم بمشهد فلكلوري عشرات من خلية النحل- أغلب المتهافتون على العربة المتبخترة من بعيد كانوا رجالا- تحاول العربة أن تجد لها مكانا وسط الحشد الكبير، السائق يصرخ ويشيح بيديه، دعوا البنات يصعدن، العربة تحتمل سبعة ركاب لكنها باتت تتسع الآن لـاثنى عشر راكبا، يوم حشر آخر ليس هذا فحسب فقد فتحت حقبة العربة وحشر اثنان نفسيهما فيها غير أن صيحات السائق منعتهم من ذلك، المشوار بعيد وليس بحاجة لحوادث طرق وعطوات- على حد قوله.

الشتائم والسباب لم ينقطع من الجماهير الغفيرة التي بدأت تنسلخ وعيونها تحدق في عقارب الساعة، البعض حاول المشى لموقف آخر، البعض لم تعد تعنيه مقامات الشارع فارتصف الأرض ولم يكترث لنظرات الصبايا، الصبايا تقوقعت في موقف المحطة عل باص الجامعة يأتي بقليل من السولار ليحملهن لجامعاتهن إلى مدينة غزة، فرفح باتت خاوية إلا من جموع البشر..

كانت تلك الصباحات الأولى من هذا الشهر لكن فرقا تشكل بعدها بأيام فالشوارع الاسفلتية خاوية تماما كصحراء الربع الخالي من المركبات ومن البشر، فالجامعات علقت دراستها، والموظفين المغادرين من الجنوب إلى الشمال( من رفح إلى غزة) أخذوا إجازة قصرية، فوعود الشريط الإخباري بإدخال الوقود إلى غزة بات أملا كاذبا بعد عشرات الأيام العجاف.

كنت مضطرة للذهاب على عملي كل يوم من رفح إلى غزة، وحالي اختلف قليلا عن البشر فقد رافقت صديقتي في سيارتها الخاصة والتي حولتها بدل البنزين إلى غاز.. كنا مرتعبتين من مجرد الفكرة في البدء، لكن الحاجة أم الاختراع..

مضينا في طريقنا وشارع صلاح الدين الإسفلتي طويل/فارغ/وخاو، وصادفنا إمرأة ترتدي النقاب وقفت صديقتي طواعية لتقلها، كانت معلمة، وسألتها ألم تأخذوا إجازة نتيجة الأزمة الخانقة، فأجابت بألم: من تغيب من المعلمات يخصم من إجازتها والدوام بات إجباريا، وعلينا تدبر أمورنا بأي طريقة كانت..!!

بات مشهد الأحصنة والكارات- الذي يحمل ما يزيد عن عشرة أفراد مشهد عاديا رغم أنه حديث جدا علينا في غزة، نساء ورجال وصغار بات الأمر كله سيان، المهم أن تجد طريقة توصلك لبيتك أو لمصلحتك وإلا فالمشي على الأقدام بات مشهدا رياضيا مألوفا للعجائز وللمرضى، ولمن لا يقوى على الوقوف أيضا وإلا بقيت تراوح مكانك!!!..

كانت الساعة الثالثة عصرا وغادرت وصديقة مكان عملي في غزة، انتظرنا عربة تقلنا دون جدوى، وكان هذا حال التجمعات الصغيرة عند كل مفترق، وانتظرنا ثلث ساعة تقريبا حتى جاءت عربة وتوجهنا- لموقف مستشفى الشفاء- حيث نجد عربات تقلنا للجنوب- في الوضع العادي.. ولكنا لم نجد سوى جموع من البشر.. بعضهم مرضى كانوا مغادرين المستشفى، وعجائز افترشن الإسفلت بينما الشمس تنخر ظهورهن، كان الانتظار طويلا جاءت اربع سيارات لكنها تقل فقط للمخيمات في محافظات الوسطى- أي دير البلح، والنصيرات- أما رفح وخانيونس فهي أماكن بعيد في أقصى الجنوب وقرب الحدود المصرية، مكثنا كأشجار السنديان ومرت ساعة ومرت أخرى، كان التعب قد أنهكنا ولم نعد نستطيع الوقوف بعد يوما عمل طويل، أخذنا نمشي ونمشي ولمحنا سيارة من بعيد، أوقفناها رغم أنها كانت تحمل أضعافا كان هنالك مكان واحد شاغر إذ كانت طالبتين تجلسان في المقعد في الوسط- وكان متجها لخانيونس، لم نفكر كثيرا وانحشرنا بشكل زئبقي بجانب الفتاتين، وبتنا جزءا من السيارة، كانت الرؤوس كثيرة والانكسارات أكثر، يدي في بطن صديقتي، وقدماي باتت جزءا من معالم العربة، لا تتحركان قيد أنملة، هذا هو ما نجده الآن بل يعتبرنا الآخرون محظوظات.. ومضينا والسائق لا يألو جهدا بإطعامنا المطبات المنتشرة في شوارع غزة أكثر من الإشارات المرورية التي لا يلتفت لها أحد، ووقف العربة فجأة بعد نصف ساعة من سيرها، قفز السائق وقال كلمة واحد: خلص الزيت.. ولم نره

كانت العربة كالفرن تفككنا وفتحنا الأبواب، لم نفهم ما قال، العربة لا تسير على بنزين ولا سولار ولا حتى غاز1!!؟؟ نستقل عربة تسير على الزيت..

جاء السائق بالغنيمة بعد 10 دقائق،جاء حاملا خمس زجاجات بلاستيكية من زيت القلي، وبدأ يسكبها في العربة-مكان فتحة السولار- استوقفنا المشهد ضحكت إحدى الفتيات قائلة: لن نرى البطاطا المقلية بعد الآن!! وصاح آخر: بيعوض الله أزمة جديدة واحتكار للزيت بكرة بيحرقونا ..!!

كانت رائحة احتراق الزيت لا تطاق ففي شوارع غزة توقع كل شىء،أي شىء، تشعر أنك رغم عشرات الكيلومترات التي تقطعها ذهابا وإيابا تشعر أنك في محل لقلي الفلافل، ورائحة السيرج تتبختر في عقلك فتشعر طيلة الوقت بالغثيان، وبأن نفسك تنتزعه بصعوبة، كان هذا في محلات الفلافل والفول لكن الآن باتت معلما من رائحة غزة المعبقة بالزيت، رائحة الحصار التي تحاصرنا وتحاصر أحلامنا، وآمالنا.. مرحلة من القنوط والعدم ، من نسيان المشاعر، من الانفعال، إنه ذلك الانفجار الذي يتحدثون عنه، لكنها للأسف انفجارات داخلية تفرقع في أصحابها، فالغلابة وما أكثرهم لا يجدون من يساندهم..!!

هي يوميات قاحلة/ موجعة حد الموت، تلتف على رحيق زهراتنا فتحيلها رمادا، ماذا تبقى؟؟ وماذا ننتظر، الشعب المغلوب على أمره في غزة والضفة لا يراه من يعتلون جيادهم، ولا يجيدون التعبير عن آلامه، تصريحات هنا، وعود هناك، أصوات نشاز نسمعها وشتائم من مغفلون استطابوا لعبة المايك، أعجبتهم لكنهم لم يجيدوها يوما، من ينزل للشارع للرجل المعدم، للسيدة الملهوفة على ذكريات ابن لم يتجاوز الرابعة عشر، ليرحل مع الفجر ويغيب دون أن يذكره أحد غيرها، من يمد يده لابن شعبه الإنسان، دون أن يسأل لمن يتبع؟ ولأي فصيل ينتمي؟ من يلمس الجرح ومن يبعث في القلوب الحياة!!..

إرسال تعليق Blogger

 
Top