0
في البدء كانت ملامح مئات البشر قلقة حيرى تعبث بأوراق الهواء علها تجد متنفسا للانتظار.. لو اتجه طائر مسرعا أمامهم لانكبوا دون تفكير أو تمعن خلفه علهم يحظون بجواب لأسئلة صعبة تدور في رحى معركتهم مع البقاء.. تجدهم شبابا، وفتيات، عائلات وعجائز.. لازلت اذكرها تلك العجوز التي انكبت على تراب الملعب في خانيونس حيث – تواجد الحالمون بالسفر- تهيل بالتراب بحركة لا أفسرها إلا بشعور القهر والعار حيث لم تعد تجد متنفسا لها بين مئات النسوة اللواتي طلب منهن أن يكن في مكان واحد قرب البوابة الشبكية تلك البوابة الأولى في عصر الهزائم .. عفرت العجوز التراب على كل من حولها هربت النسوة وتدافعن وسادت الفوضى من جديد.. ربما داست النساء طرف ثوبها الفلاحي العتيق فعز عليها، ربما شعرت بالجنون يقترب من أبوابها فطردته بذر التراب على من حولها، ربما أزعجها ضجيج أصوات النساء وعويل صغارهن، ربما لم يسمع صوتها أحد، بل ربما شعرت أنها وحيدة رغم مئات البشر من حولها..

لم تتجاوز الساعة السابعة مساءا في ملعب نادي خانيونس – وصالة الشهيد أبو يوسف النجار الذي ترجل من صورته بعد أن فقد صوته في الميدان حاول أن يبتعد عن معاناة المئات الذين تحولوا إلى آلاف بعد ساعات قليلة يمنون أنفسهم بهروب يجملونه في إطار السفر.. حاول التملص من صور النساء المتدافعات غير الملتزمات بدور أو نظام!!! أي نظام هذا الذي سيفرض بعد أن سمح بالدخول منذ ساعات النهار لكل من يريد السفر أو لا يريده كانوا مئات بالملعب ثم أصبحوا آلاف بعد ساعات وحين بدأ الإغلاق الحقيقي لبوابة الملعب كان النظام قد هرول نتيجة وجود هذه الجموع الغفيرة ثم بميكرفون ضعيف لا يكاد يسمع من بجانبه قيل للنساء أن يتجمعن معا عند البوابة، ومن لها زوج أو أخ أو ذكر ليذهب للناحية الأخرى إنه نوع من النظام وهو مقبول في ظل جحافل الرجال المتواجدون في الملعب لكن تدافع النسوة وانسحاق أجسادهن على رمل الملعب وتعبهن المبرر من كثرة الساعات التي انتظرن فيها أي تحرك جعلتهن لا يطقن البقاء، من لها طفل كيف ستجلسه على التراب ومع أول صوت لفتح البوابة تسحق الأقدام من أمامها دون أن ترى صغيرا أو كبيرا، ملت النسوة من الانتظار ومللن من التعب ومن الشعور بالانهيار ورحلتهن لم تبدأ بعد!!..

جاءهن من نسميه قائد وطلب منهن الالتزام بمكانهن لكنهن لم يدرك الحالة التي وصلت لها النساء، لا أحد يخالف النظام والقانون لو كان بمعايير إنسانية لكن أن يعادي كل النسوة ويستحلف لهن ويحلف أغلظ الأيمان ألا تدخل أي منهن فهذا لا يقبله عقل!! بهذه الأجواء وهذا المكان يذهب قائدنا ورغم محاولات النساء بالالتزام بعدم التقدم إلا أن الجموع التي تدفع بهن من الخلف وتحاول التقدم هي أيضا لا تنجح الأمر وبكاء صغارهن أيضا يجعل أي صبر أو انضباط هو أمر غير منطقي، وهكذا عاقب قائدنا النسوة فمنع دخول أي منهن وبعد أن كنت وزميلة في الصف الأول أصبحت أمامنا خلال ساعة ونصف عشرات النسوة، كافأ قائدنا الرجال المنضبطون والملتزمون وبدأ بالسماح لهم بالتقدم ثم الدخول عبر البوابة الأولى، وشيئا فشيئا أصبح الرجال هم الأكثرية وساد الهرج والمرج وتدافعت النسوة إلى البوابة ووجدنا أنفسنا محاطون بجزيرة من الرجال وبيننا أطفال لم تتجاوز أعمارهم السنة والخمسة سنوات، لا مجال للتقدم ولا مجال للتراجع، الرجال لم يعودوا يرون نساءا ولا أطفالا ماتت بداخلهم كل الحدود ولم يعودوا يلمحون شيئا سوى البوابة الأولى …!!

البوابة الأولى:

فقد قائدنا السيطرة -التي كانت مخيفة بالفعل- وصرخ رجال الشرطة بالرجال الحالمون بالسفر، وحاولوا أن يصدوا بأجسادهم وعصيهم الرجال فاقدي الصبر كحال كل من بالمكان، إلا أن الأمر بات خارج السيطرة وكاد الصغار –يفرمون- من الأجساد الكبيرة الضخمة فاشتغلت العصا على الأرض ثم على الأقدام التي تطولها، حاول رجال الشرطة جاهدين إدخال النسوة العالقات في جزيرة الرجال، وانتزعوا صغارهن وأدخلوهم عبر البوابة ووقع من وقع وبكى من بكى وانهار من انهار..



البوابة الثانية:

دخلنا في مكان معتم طويل طول حلم السفر، لملمنا جراحاتنا وألمنا وهرولنا لنجد طابورا للرجال وآخر للنساء لم نكد نلتقط أنفاسنا ونطمئن على الأطفال الشجعان أمامنا حتى علت أصوات طلقات الرصاص وصراخ العالم من خلفنا وقصة جديدة ونساء ورجال عالقون و رجال شرطة لم يشهد تاريخهم موقفا أكثر صعوبة مما رأوا.

تسرب بعضا من الهدوء وحفظ الدور فكل من أمامه أحد يعرف مكانه ودوره لم تسلم النسوة من تعليقات الرجال المقصودة " تصريخة بدخلة"، هنا ما في صراخ هنا دور ولازم يا شرطة تاخذوا عشرة رجال و5 نساء لأنه عددنا أكبر بكثير، والتزم رجال الشرطة بالنصيحة وباتوا يدخلون كل ثلث ساعة العدد المذكور، جاءت دفعة أخرى من النساء والرجال من البوابة الأولى وعاد الهرج سيد الموقف، وعدد رجال الشرطة لا يكفي إذ اندفعوا للبوابة الأولى نتيجة إطلاق النار.



البوابة الثالثة- بوابة الصالة:

لم يؤذن الفجر بعد ووجدنا عشرات الرجال في طابور ملتوي لطبيعة المكان، وطابور للنساء ووقفنا ننتظر كان الانتظار أكثر صعوبة فالبوابة الحديدية شبه مغلقة لا تكاد ترى منها شيئا، لم يكن عدد كبير من النساء قد وصل بعد، حين تغلق البوابة فكأن العالم أطبق عليك في علبة من جديد، تشعر بالاختناق وبالموت لكنك لا تموت..

جاء رجل شرطة حاملا امرأة أربعينية تكاد تفقد وعيها وابنتها تسندها من جهة أخرى، وصرخ مع زملائه ليفتحوا البوابة للسيدة التي تموت لكن أحدا لم يصغ وأحدا لم يسمع، الصراخ يعلو والبوابة تهتز، والرجال يتذمرون من الطوابير الممتدة.. وبعد دقائق ثقيلة على الجميع فتحت البوابة وأسعفوا السيدة المسكينة وأغلقت البوابة من جديد، بقينا ثلث ساعة أخرى ودفعتنا الأجساد البشرية إلى الداخل وعاد صوت الزنزانة من جديد ومناشدة فتح الأبواب مرة أخرى..

وصلنا لصالة الألعاب المغلقة، صالة كبيرة والمدرجات تحيط بها من أربع جهات تقدمت حيث أشار الشرطي، وأردت تسليم جواز سفري خاصة أني من أوائل المحظوظات بالدخول، فقال شرطي مساعد للكتبة على الطاولات أنتن يا أخوات خمس نساء فقط وكما ترين هؤلاء عشرون رجلا في أقل من دقيقتين سننهي تسجيل جوازاتكن.. وألهمنا الله بعضا من الصبر وابتسامة لا أدرى من أين توفرت بعد هذه المعارك.. وانتظرنا لكن المشهد تغير في ثوان معدودة بتنا عشرات من النسوة وعشرات من الرجال، وباب الصالة لا زال يدفع بالمزيد.. وتاهت نظرات الشرطي لم يعد يعرف خمستنا بل لم يعد يتذكرنا، واقتربت زميلتي التي دخلت بعدي وناولت بعد محاولات حثيثة شرطي آخر جوازاتنا وبعد نصف ساعة من الطابور المنبعج فالصالة للرياضة وليست للسفر- أعطاها تذكرتين برقم الباص واسم المسافرة وتنفسنا الصعداء ، لكنا تفاجأنا أن التذكرتين باسم زميلتي وعدت مرة أخرى لنصف ساعة أخرى في طابور متجدد فوضوي ومنهك لتذهب كلماتي أدراج الرياح ثم مرت نصف ساعة أخرى لينادي أحد الواقفين عند طاولات التسجيل باسمي فإذا به يرجع لي الجواز قائلا لا أقامة لديك؟..!!! أي تصنيف لعمر الإنسان وساعات انتظاره وأي استخفاف هذا بعد ساعة من تسليم الجواز ومئات الجوازات التي ختمت قبلي وهي بعدي، كل رقم أعطى افقدني كل تعبي وجهدي لتحولها لهزائم متجددة في يوم واحد.. ناولته شهادة القيد في معهد الدراسات والبحوث فعاد ليأخذ الجواز مرة أخرى ويعطيني رقم الباص 11 وخلفني على الأقل 4 باصات كان المفترض أن يكون اسمي فيها!!

وجلسنا حيرى كباقي الناس نجلس على المدرجات وقد طلع الصباح علينا ونحن كالمبللين من البحر فحرارة اليوم ومعارك الليل جعلت منا طعاما للنسور وامتدت الدقائق تليها الساعات ثم بدأت المناداة على باص رقم واحد ثم رقم 2، وتوجهنا للخارج من باب آخر للملعب لنجد كل الباصات حتى رقم 7 لنجد أنفسنا في على أرصفة شارع البحر عند ملعب نادي خانيونس.. وافترشنا الرمل وأرصفة المحلات المغلقة والتي لم تفتح أبوابها بعد وانتظرنا كثيرا، كان هنالك باص أمامنا به ثلاثون عائلة أوكرانية جاء من غزة كما هو، ورأينا ونحن على الرصيف سيارات تأتي ببساطة ويدخل أصحابها الملعب ويخرجون حاملين تذاكر الباصات ونفاجأ بان أرقامهم قي الباصات الأولى ..ضحكنا وبكينا وانفعلنا وصمتنا صمتنا كثيرا كل هذه الهزيمة وكل هذه المعارك لم تفلح بل كل هذا النظام الصارم لم يفلح بشىء أبدا سوى بجرحنا أكثر فأكثر.. الجرح عميق وتعب أجسادنا لم يسمح لتعب قلوبنا بأن يكبر وقلبنا صفحة أليمة على أمل ربما يتحقق..!!



الباص رقم 11

في العاشرة والنصف صباحا بدأت الباصات الأخرى تأتي وكان نصيبي في الباص 11 الذي به العائلات الأوكرانية وصعدت بهدوء حين علمت أنه سيحمل الباص رقم 11 ولم أكن أدري أن ملحمة ستحدث بعد صعودي بدقائق .. جاء أصحاب التذاكر وبدأوا بالصعود عشرات وعشرات، لم يعد بإمكاني أن أحصى كان العدد يفوق الوصف فربما لم يدركوا أن ثلاثين عائلة تحتل نصف الباص تقريبا محجوز أصلا، وبدأت معاناة الباص 11 ساعتين كاملتين فقط وبمساعدة رجال شرطة وآخرون تطوعوا ليحلوا القصة وإنزال الركاب وإنزال الشنط وإقناع الركاب بالصعود للباص 12 دون جدوى..

كان المشهد مؤلما وكأنا على أعتاب مصر، بيننا وبين حدودها قاب قوسين لم نكن ندري أن المعركة لم تبدأ بعد..!!

الطريق إلى المعبر..

تهافتت نسمات هاربة من فلول المعركة الليلية إلى ركاب الباص لكنها لم تجفف حبة عرق عن وجه أحدهم، ومضينا في طريقنا إلى أماكن دراستنا التي شربنا المر لنصلها، ليس الانكسار الوحيد ولا الأول في سبيلي لمناقشة رسالة الماجستير التي أنهيتها منذ عام ونصف وعقدت لي لجنة المناقشة ثم ألغيت لعدم تمكني من السفر، ثم عقدت مرة ثانية وحاربت وجاهدت للسفر في مرات سابقة لكن كفة الواسطة تغلب دائما، ولست من مقربي حانا ولا مانا لست إلا لاجئة فلسطينية أنهت دراستها العليا في مصر وتتمنى أسبوعا واحدا فقط لتكون في معهدها لتناقش الرسالة التي أعدت مرتين لتحديث المعلومات النظرية والعملية .. ليس الانكسار الأول !!!

توقفت بنا الحافلات عند حديقة الحيوانات على طريق معبر رفح ووجدنا أمامنا عشرات الباصات، كان الوقت منتصف النهار، وتنفسنا قليلا ونزلنا من الحافلات علنا نحظى بشربة ماء أو نسمة هواء تعيد لنا بعضا من دمنا المسفوك على أعتاب الزمن.. نادتني زميلة في إحدى الباصات الموجودة قبلنا وقالت أنهم جاءوا باسم وزارة الداخلية مباشرة من غزة وضحكت قائلة: في أي بي يعني سألتها لم تمروا في ملعب خانيونس مثلنا فأجابت مباشرة من غزة ونحمل رقم باص 13 .!!

بدأ العصر يغزونا وأشعة الشمس تحرقنا وبدأنا بالتحرك ببطيء ورحلت أغلب الباصات أمامنا ثم وجدنا أنفسنا على أبواب المعبر، فقط باصين كل ساعتين ونزلنا ركبنا الحافلات عشرات المرات بفعل الاختناق البشري والحقائب التي أكلت ظهورنا، وانفجرت إحدى السيدات الأوكرانيات..ما الذي يحدث لنا يكفي. هذا عقاب وليس سفر!! طلب منها الرجل العجوز ألا تضايق عليه في جلسته وانفجرت مرة أخرى أنا حامل ومعي ثلاثة أطفال أين تريد أن أضعهم.. اليهود يعطون كل واحد كرسي ويحضرون له وجبة طعام وميه وعصير ويعاملونا كالبشر ونحن هنا كالغنم!!!

كان الصمت يخيم على الباصات التي تحمل الوجوه البشرية الكالحة، والأجساد الذابلة وكل منهم بات قنبلة موقوتة.. كان الوقت كالسيف يحز رقابنا شيئا فشيئا، والاقتراب لعدة امتار من بوابات المعبر بات كشىء هلامي ما أن تظن أنك قريب منه حتى تجده سرابا، لكنه ليس كالسراب إذ الألم والغصة التي يتركها تبقى في حلقك أياما وسنين، الباص يقترب ثم يدور حول نفسه ثم يعود لمكانه الأصلي، ثم يتقدم أمتار معدودة ثم يعود لنقطة الصفر وهكذا تقدم، تراجع، دوران، حتى فقد الإحساس بالوقت وبعذابات الجميع.. تقدمنا من جديد وتشربك تسلسل الأرقام فتقدمت الأرقام الأخيرة على الأرقام الأولى وهكذا عدنا للدائرة القديمة لا جديد على معبر رفح.. هو يترك بصمته علينا لا نحن من نترك بصمتنا عليه.. فقد تحول لأسطورة في المعاناة والإذلال والهزائم المتكررة للنفس البشرية..!! لا أحد أكبر من جناحيه الأسودين ولا مفر من امتصاصه دم الحياة منا وقتما يشاء هو من يختار الزمان والمكان هو من يصلب أرواح عزتنا وأنفتنا ويدحرج رؤوسنا على مقصلته وقتما يحلو له..هو من يرانا كجيوش النمل وينفخ نفخته الأولى فتهوى الجيوش ويمارس نظامه الخاص على حساب كرامتنا التي داستها الأقدام وطوت صفحتها..

حل الليل من جديد والطوابير لا تنتهي والوجع يكبر والجرح ينزف لم يتوانى رجال الشرطة عن إحضار المياه للناس ولم يدخروا جهدا في حمل الحقائب عن العائلات والأسر بل لم يكفوا عن محاولة طمأنتنا بإجابات عن أسئلتنا الصعبة لكن من صاحب الكلمة ومن يعطي السياف أمره هذا مالم نفكر به ساعات الذل الطويلة لأنا كنا نفكر برقابنا الممدة بغير انتظام على المقصلة..

جاء قليل من الأمل قبل منتصف الليلة الثانية وبدأ المسافرون الحالمون بالحجيج للباصات الأولى التي كادت تفقد وعيها من عدد البشر فيها.. وقاموا بقسمتنا على باصين نظرا للعدد الكبير ولطلب المصريين بمزيد من النظام والتخفيف من عدد الركب وانتظرنا وتم فحص الجوازات مرة أخرى ودارت بنا الباصات المعبر مرة أخرى، وعدنا لنقطة الصفر ثم من جديد دارت قلوبنا وعيوننا مع كل دوران أتوبيس وتجاوزت الساعة الثانية فجر لينطلق الباص والناس من كثرة التعب لم تدري إلى أين نسير .. كنا في طريق عودتنا إلى رفح – البلد خارجين من المعبر، وحين وضحت الرؤيا كان الحالمون يهبطون من الباص مصدومين غير مدركين لتبكي الفتيات الصغيرات، ويصيح البعض، لكن الأغلب ظل صامتا ..!!

إرسال تعليق Blogger

 
Top