0

20081228880

هداية شمعون

كلما أغمضت عيني، رأيتني أشق صدري، أنزف دما، أقطع أحشائي كأنني خاوية ...الآن... الريح تعبث بأطرافي ، تحدق في أجزائي، تقتلع ما تبقى من أنفاس، تردني إلى بعض الزوايا... الفظ كلماتي الأولى وأحبو كطفل صغير فقد ساقيه، عينيه، كلماته الأخيرة.

كلما أغمضت عيني أراني بصقت دما على جماجم كثيرة، أتراجع لكني لا أبتلع إلا عجزي، أهيم في طرقات شائكة، موت وبقايا بشرية ملقاة بين بيوت المدينة/ المدينة كانت مخيم وقبل ذلك كانت معسكر لاجئين/ هي كل ذلك..!! أحدق صوب الشمال... ألتقط بقايا أحلام مضت أفتح عيناي أراني هناك وسط التيه، القصف من كل فج والقلوب الملتاعة تحمل أجسادها أكفانا وتمضي، تحمل نعش الصغار وتبكي دون وداع، تلقيها المقبرة وتهرول تحتمي بين الأزقة المنهارة، تتعثر في خطاها جحافل بشرية كلها تعانق الموت ولا ترحل عن جدران بيوتها المدمرة، تحدق في الأكوام الممتزجة بلحم البشر في مخادعهم ودمهم غطى أركان البيت، دمى الأطفال وجوههم، لم يتبق منهم أحد...!!

المدينة التي كانت مخيم وقبلها كانت معسكر للاجئين، تدق صدرها وتمشي أسراب في الليل حين تسود العتمة، وتهيم في الطرقات تحمل الأكفان التي وجدتها وتبقى حتى سويعات الفجر الأولى، عيونها حمراء بفعل البكاء تتبخر كل الأسراب، وقفة واحدة.. ويأتي دور البشر يحملون الرايات ويدفنون الموتى يهرولون بحثا عن ملاذ من الطائرات..

كلما أغمضت عيني أرى النسور/الطائرات تأكل رأسي تنقر اللحم ...يتناثر الدم، تنهار البنايات، يسقط الصغار، أتعثر بهم... لا أجد كفنا أدفنهم ، فادفنهم في يدي، واتجه لمقبرة المخيم، أجدها تبتعد أكثر، فأتعثر بمزيد من المقابر دون باب حديدي دون أسوار المدينة...كلها باتت رؤوس متفجرة، تعود النسور/الطائرات تحط قنابلها على كتفي، أضع من تبقى من أطفال على كتفي الآخر، فلا أجده!!

كلما أغمضت عيني يا أمي أراها هي وأطفالها الأربعة/السبعة/الخمسة/جميعهم مضرجين بدمهم مصلوبين في غرفتهم العارية إلا من أشلاءهم، وبعض الأحياء/ كتلة اللهب تشتعل في أجسادهم وتكبر وتكبر تبلغ السماء، تلك السماء المفتوحة.

كلما أغمضت عيني انتزعتني مني سحب الدخان السوداء معبأة بدمنا تتفجر في حجارة البيوت وتملأ صدورهم الحاقدة بالموت، يمزقنا صراخ الطائرات وهي تدك الملائكة الصغيرة تجعلهم يطيرون دون أجنحة، يرحلون وعيونهم حبلى بالفراشات المكلومة التي لم تحلق بعد، تسافر لمكان آخر غير زقاق المخيم/المدينة... لو أن كل الملائكة تحيط بأجسادهم الغضة وتسافر بهم إلى الله بهدوء دون دماء...

كلما أغمضت عيني يا أمي أراهم يتساقطون كالفراشات، كبراعم الزهر اليانعة وقطرات الندى لازالت تغازل عيونهم، ويلهم من الله ويلنا من عيون من تبقوا أحياء، كيف تلمس عيوننا قلوبهم، كيف نغزل لهم من دمنا صمودا ولونا آخر للحياة.

كلما أغمضت عيني يا أمي رأيتهم في تلك الزاوية من البيت عيونهم جاحظة تبحث عن طريق نجاة، تغزلهم رصاصات الغدر ولا ترحمهم قذائفه الدموية، أيديهم تحتضن بعضها، وجوههم تمتزج حبا ودما، يتواصلون عبر الأنفاس، تنقطع آهاتهم الآن يسقطون معا، لكنهم لم يعودوا كما كانوا، كانوا عشرون/ثلاثون/ أربعون/مئة يمتزجون بالأرض العطشى وبعرقهم المنسكب رغم برودة ديسمبر، إنهم يموتون الآن أمامي أراهم يا أمي كلما أغمضت عيني وصرخت دون صوت، بكيت دون أن تغمض عيناي، إنهم أمامي عيونهم تحدق بي أجسادهم المنتفخة ودمهم المتجمد على أركان البيت والموت يعبر بينهم واحدا واحدا، يتسلق ملك الحياة فاسمع صريخ الصغير الذي دفن بأجساد الشهداء، إنهم يعبرون بوابة السماء المفتوحة كلهم دفعة واحدة يتركونه وحيدا هو وثلاثة آخرون صغار كانوا صغار يا أمي يبكون وينوحون، لازال الوقت متسع للبكاء وللعويل وللنواح وتمر الأيام وهم لازالوا يموتون بين الموتى ويبكون

كلما أغمضت عيني يا أمي أراهم لازالوا معلقين بين السماء والأرض، يبحثون عن ثقب آخر للأرض علهم يوقظون الموتى ويرحلون بصمت الفراشات، كلما أغمضت كلما حلمت أكثر بأني لازلت على قيد الحياة...

إرسال تعليق Blogger

 
Top