ستة عشر عاما..مضت على رحيلك المفاجىء. بينما أعبث بضفيرتك ومشهد الدماء يغطي الأرض من حولنا. كنا وحدنا وهم ينظرون. يحدقون في الوجع، بل كنت قد هربت إلى أقصى الدار العتيقة عتق محبتنا، هرولت من عينيك الملتاعة ورأيتهم يحملون جسدك الصغير إلى المشفى.
ستة عشر عاما وها هو العيد يأتي ويرحل لأرنو إلى حيث مقعدك. سريرك الحديدي العتيق عتق الألم في قلبي. إنه الآن يتربع على سريرك وحيدا. ملتاعا. ساعات قليلة، دقائق يبقى معنا، ثم يستذكر روحك الطاهرة.
إنني الآن أكاد أكون أمام قبرك، لكني لم أصل بعد، منذ سنوات ولازلت أحاول جاهدة الوصول لقلبك، لم تشفيني الأتربة والعشرات بل المئات من القبور التي نهضت وغادرت الأرض بأرواحها وأجسادها، أتيتك اليوم باحثة عن جدوى عن معنى لحياتنا هاهنا، فمن ينتظر من؟ ومن يودع من؟ من حولنا الموت يتربع متبخترا ينتقي الحيوات من بطون الأمهات، ويقترب من أجسادنا ينفث بركانه الهادر فينا فنخر جزعا وخوفا. مم نخاف؟ ومم لا نخاف؟؟
أخذت الصغيرين بعد أن شعرت بالاختناق تلك الليلة، قدم تسوقني وأخرى تزلزلني، الطائرات الحربية الإسرائيلية في الأجواء منذ أيام يوم بيوم، ساعة بساعة، هديرها يقتلع النوم من عيون صغاري، قتلت طفلة بريئة كانت تلعب بالشارع ذلك الصباح البنفسجي لأنها كانت قرب هدف إسرائيلي لأحد رجالات المقاومة كان قد ترجل من عربته وشطره الصاروخ وسط المخيم، والصغيرة شطرت حياتها نصفين فلازالت في العناية المركزة لأنها تلعب في حارتهم الصغيرة، بين التراب والجدران المتهالكة، وهي لا تدري أن عيون إلكترونية ترصدها من السماء!!..
شهقت حين علا صوت الطائرات الحربية وصحت بصغيراي، لا تبتعدا، كدت أخنقهما وأنا أقبض على يديهما الصغيرتان، كان خوفي وهلعي يزداد وأنا ألعن اللحظة التي وافقت فيها على الخروج من البيت، كان الصغيران منطلقان وأنا أعيش اللحظة الغريبة على نفسي، وحدثتها بيني/وبيني كنت أود أن أخبرك عن روعتهما، والحياة التي أحلم بها لهما، لكن انقطاع التيار الكهربائي عن غزة جعل الحلم غريبا مظلما، وشوارعها الخالية إلا من المئات من البشر يمضون في طريقهم مرغمين على الخروج لاحتياجاتهم الملحة، جاء العيد، رحل العيد لم يعبأ أحد بشىء، فالأيام كلها باتت قاسية، وأصبحنا نخشى اليوم التالي لأنه سيحمل ما هو أكثر سوءا!!..
ستة عشر عاما كنت فقط عصفور يحلق، يحلم بغد أفضل، حلمت بالسفر مرارا وفعلت لكنا الآن نختنق، ينظر أحدنا للآخر، وبعد؟؟ ألمحك الآن بعد ستة عشر عاما وأذكرك وأنت تسردين لي حكايا البلاد، حين جاءك أبي خاطبا كنت من أسرة ميسورة الحال وتملك الكثير من الأراضي، بينما أبي عاملا فقيرا ووافقت آنذاك، خبرتني عن تلك البلاد الخيرة وما أعطتكم وأعطيتموها، كنتم بسطاء هكذا تخيلتكم، أتذكرين رحلتكم القهرية إلى تل الصافي، وغزة، والبحر العميق عمق القهر والهجرة، كنتم تمشون حفاة ومفاتيح بيوتكم بأيديكم، وافترقتِ عن والدي بفعل الحرب والعصابات الصهيونية التي لم تتدخر جهدا بذبح النساء والأطفال في دير ياسين، لتولوا الأدبار ولا يرحمكم الطيران الإسرائيلي- الذي لازال في عهد ابنتك وأحفادك إلى الآن- إنه طيران الحقد الذي لا يرانا سوى ذرات غبار فليس هناك في بلدنا أرخص من حياة البشر تحت دواع واهية حاقدة وبموافقة الشرعية الدولية تلك الأكذوبة التي صدقناها فذبحتنا حتى النخاع..!!
كنتِ متعبة من كثرة الموت الذي شاهدتي، وقدمت ابنك البكر فداءا للوطن ورحل، وبقيت والصغار في رقبتك حتى التقيتما مرة ثانية ولكن في المخيم.. تلك الأسقف من الزينكو، والكرميد التي لم تحمي بردا ولا حرا لأجساد صغارك..!! وكنت رائعة تدفئينهم بحبك وحنانك.. وأتيتُ-أنا- لأجد الشوارع الضيقة، وتلك الجدران الإسمنتية والبيت الذي بات نصفين أحدهما من الباطون والآخر من الإسبست أذكر صوت المطر حين يشتد كيف يضرب بقوة كمن ينتقم من الوجع بوجع آخر.. أذكر لوعتك حين كنا نتأخر، وحين يفرض منع التجوال ولا نعود، يكاد قلبك يقف أشعر بك الآن بعد أن أصبحت أما..
ستة عشر عاما وأنت هناك وأنا هنا إنها المرة الأولى التي أحمد الله أنك رحلت ولم تعيشي هذا الموت المتسربل إلى أحشائنا فلم نعد نعرف حياتنا من موتنا، أراهن تلك النساء العجائز يقفن عند ناصية الطريق بمساعدة أبناءهن لا يجدن وسيلة نقل للمشفى، فلا يجدون بدا بعد ساعات من الانتظار سوى اللجوء لإحدى المركبات التي تجرها الأحصنة أو الحمير، وحين يصلن للمشفى لا يجدن طبيبا ولا دواء، فالحصار لم يترك حالات حرجة ولا مرضى ولم يلتفت أبدا للعجائز و المواليد، إنه يقول لهن ولهم ببساطة الأفضل أن تموتوا في بيوتكم وعلى أسرتكم.. إنه يقول للأبناء: أنظروا لهن/لهم جيدا وهم يتلوون ألما وهم يموتون، تأملوهم لتبقى ذكراكم الأخيرة للسنوات القادمة إن بقيتم أحياء..!!
ستة عشر عاما والعبرات تخنقني اشتياقا وحنينا .. حبا وعشقا لك سيدتي..
مشهد مرتبك
عشرة أيام مرت كعشرة أعوام، عشرة ثواني كانت الأم ميسر جالسة صباحا وقد أعدت ما قد يسمى إفطارا لأطفالها الأربعة، كانوا يجلسون على الحصير وتحاول أيديهم الصغيرة الوصول لشىء يؤكل، وضحكات الصغير تتلألأ في المكان المعدم، وكانت ميسر تنقل نظراتها المشفقة على صغارها الجوعى وتبتسم والرضيع يلثم رضعته في حضنها، كان صباح ربيعي تحول في ثوان معدودة إلى موت وأشلاء فقذيفة إسرائيلية اقتحمت جدار البيت المتهالك لتنفجر وسط العائلة الجميلة، بين الأم وأبنائها لتهدي هناء ذات الخمسة أعوام يديها ورأسها إلى أمها ، ولتحتضن قلب ردينة التي لم تتجاوز الستة أعوام، بينما مسعد الرضيع بات جزءا من رحم أمه مرة ثانية ليمتزج الدم والأشلاء، ويبقى صالح ذي الأربعة أعوام قسمين أحدهما بين أحضان عائلته والنصف الآخر ملتصقا ببقايا الجدران المتهالكة ليبقى شاهدا للتاريخ على جرائم الاحتلال الإسرائيلي.. كان الحليب أبيضا قبل ثوان وبات دمويا أكثر من الدماء، وبقايا الأجساد البشرية تحط رحالها في كل ركن من البيت الفقير، أهداهم الاحتلال إفطارا خالدا في يوم جديد من أيام الحصار، وفي صحن الدار..!!!
البداية..المخيم.. هجرة الأجداد..!!
الموت يقف مبهورا منتظرا لهفة الصغار لأمهم، لم يتح لهم المحتل وقتا للخوف أو الهلع، انتزع أرواحهم بعد أن فجر أجسادهم أشلاء متناثرة مع صباحات يومهم الجديد، لم يتح لهم وقتا ليودعوا أصدقائهم، أو أن يبتلعوا لقمتهم المتهالكة، لم يفلح الموت بمنحهم وقتا للحياة، وقتا آخر للموت فقد كان موتا مفاجئا مخيفا للموت ذاته، حاول الموت أن يصحو من صدمته لكن الفاجعة أكبر مما عهد ورأى.. فبقايا الصغار وأمهم والجثث المشوهة في أركان البيت لم تترك له وللآخرين وقتا للبكاء، فقد رحلوا جميعهم سريعا وتركوا الألم والمشهد الدامي فحسب.
مشهد سابق:
الناس نيام في شمال غزة وعلى ساحل المتوسط، إلا هم عيونهم الحمراء تضىء المكان بقنابلهم الضوئية يوما بيوم ليلة بليلة، إنهم يتقدمون بدباباتهم ومجنزراتهم الحاقدة من بيت حانون، كلما فشلت مساعيهم تقدموا أمتارا ليشيعوا الموت والدمار بين البيوت المتهالكة، وهاهي ميسر تنحني تغطي صغارها، وتهدهد الرضيع فقد لازمه الأرق والبكاء كأنما يدرك أنها ليلته الأخيرة في هذه الأرض وعائلته الصغيرة، تناهت لمسامعها هدير الدبابات لكنها اعتادت هذه الاقتحامات، فالأصوات بعيدة، والناس نيام، ظلت تهدهد الصغير حتى غفا، وجاءها الصباح نهضت بتعب وتوجهت للصلاة داعية الله بالفرج القريب، فقد طالت ليال الحصار، وطال الأرق والسهد، وطال طعم الزعتر والخبز القاسي، وطالت أيام الفقر والحرمان، والهزال يصيب صغارها، ودعت الله في سرها وبصوتها الخافت: اللهم أزل الغمة.. اللهم أفرج كربنا.. زقزقة العصافير والشمس تجتاح عيون الصغار بسرعة مفاجئة، فالدار مكشوفة بالكاد يستر بعض الغرف الاسبست المتصدع.
هاهم يستيقظون ويلعبون حولها وتضع بضعة صحون وأرغفة حاولت جاهدة تسخينها على النار.. تناديهم وفرج قريب يلوح في الأفق.. يتحلقون حولها وتبدأ المجزرة وتنتهي في جلسة إفطار، ليأت الفرج للعائلة بأكملها من حيث لا تدري..فهل من يسمع، هل من يرى..!!!
إنهم الآن في السماء الأم وأبنائها الأربعة يحتسبون عند الله ظلم البشر..!! وتركوا لجيرانهم ووطنهم حلم نازف للعودة لديارهم..إلى البلاد التي أصبحت الآن لدولة الاحتلال..والموت لازال يلاحقهم حتى في مخيمات اللجوء..!!
ستة عشر عاما وها هو العيد يأتي ويرحل لأرنو إلى حيث مقعدك. سريرك الحديدي العتيق عتق الألم في قلبي. إنه الآن يتربع على سريرك وحيدا. ملتاعا. ساعات قليلة، دقائق يبقى معنا، ثم يستذكر روحك الطاهرة.
إنني الآن أكاد أكون أمام قبرك، لكني لم أصل بعد، منذ سنوات ولازلت أحاول جاهدة الوصول لقلبك، لم تشفيني الأتربة والعشرات بل المئات من القبور التي نهضت وغادرت الأرض بأرواحها وأجسادها، أتيتك اليوم باحثة عن جدوى عن معنى لحياتنا هاهنا، فمن ينتظر من؟ ومن يودع من؟ من حولنا الموت يتربع متبخترا ينتقي الحيوات من بطون الأمهات، ويقترب من أجسادنا ينفث بركانه الهادر فينا فنخر جزعا وخوفا. مم نخاف؟ ومم لا نخاف؟؟
أخذت الصغيرين بعد أن شعرت بالاختناق تلك الليلة، قدم تسوقني وأخرى تزلزلني، الطائرات الحربية الإسرائيلية في الأجواء منذ أيام يوم بيوم، ساعة بساعة، هديرها يقتلع النوم من عيون صغاري، قتلت طفلة بريئة كانت تلعب بالشارع ذلك الصباح البنفسجي لأنها كانت قرب هدف إسرائيلي لأحد رجالات المقاومة كان قد ترجل من عربته وشطره الصاروخ وسط المخيم، والصغيرة شطرت حياتها نصفين فلازالت في العناية المركزة لأنها تلعب في حارتهم الصغيرة، بين التراب والجدران المتهالكة، وهي لا تدري أن عيون إلكترونية ترصدها من السماء!!..
شهقت حين علا صوت الطائرات الحربية وصحت بصغيراي، لا تبتعدا، كدت أخنقهما وأنا أقبض على يديهما الصغيرتان، كان خوفي وهلعي يزداد وأنا ألعن اللحظة التي وافقت فيها على الخروج من البيت، كان الصغيران منطلقان وأنا أعيش اللحظة الغريبة على نفسي، وحدثتها بيني/وبيني كنت أود أن أخبرك عن روعتهما، والحياة التي أحلم بها لهما، لكن انقطاع التيار الكهربائي عن غزة جعل الحلم غريبا مظلما، وشوارعها الخالية إلا من المئات من البشر يمضون في طريقهم مرغمين على الخروج لاحتياجاتهم الملحة، جاء العيد، رحل العيد لم يعبأ أحد بشىء، فالأيام كلها باتت قاسية، وأصبحنا نخشى اليوم التالي لأنه سيحمل ما هو أكثر سوءا!!..
ستة عشر عاما كنت فقط عصفور يحلق، يحلم بغد أفضل، حلمت بالسفر مرارا وفعلت لكنا الآن نختنق، ينظر أحدنا للآخر، وبعد؟؟ ألمحك الآن بعد ستة عشر عاما وأذكرك وأنت تسردين لي حكايا البلاد، حين جاءك أبي خاطبا كنت من أسرة ميسورة الحال وتملك الكثير من الأراضي، بينما أبي عاملا فقيرا ووافقت آنذاك، خبرتني عن تلك البلاد الخيرة وما أعطتكم وأعطيتموها، كنتم بسطاء هكذا تخيلتكم، أتذكرين رحلتكم القهرية إلى تل الصافي، وغزة، والبحر العميق عمق القهر والهجرة، كنتم تمشون حفاة ومفاتيح بيوتكم بأيديكم، وافترقتِ عن والدي بفعل الحرب والعصابات الصهيونية التي لم تتدخر جهدا بذبح النساء والأطفال في دير ياسين، لتولوا الأدبار ولا يرحمكم الطيران الإسرائيلي- الذي لازال في عهد ابنتك وأحفادك إلى الآن- إنه طيران الحقد الذي لا يرانا سوى ذرات غبار فليس هناك في بلدنا أرخص من حياة البشر تحت دواع واهية حاقدة وبموافقة الشرعية الدولية تلك الأكذوبة التي صدقناها فذبحتنا حتى النخاع..!!
كنتِ متعبة من كثرة الموت الذي شاهدتي، وقدمت ابنك البكر فداءا للوطن ورحل، وبقيت والصغار في رقبتك حتى التقيتما مرة ثانية ولكن في المخيم.. تلك الأسقف من الزينكو، والكرميد التي لم تحمي بردا ولا حرا لأجساد صغارك..!! وكنت رائعة تدفئينهم بحبك وحنانك.. وأتيتُ-أنا- لأجد الشوارع الضيقة، وتلك الجدران الإسمنتية والبيت الذي بات نصفين أحدهما من الباطون والآخر من الإسبست أذكر صوت المطر حين يشتد كيف يضرب بقوة كمن ينتقم من الوجع بوجع آخر.. أذكر لوعتك حين كنا نتأخر، وحين يفرض منع التجوال ولا نعود، يكاد قلبك يقف أشعر بك الآن بعد أن أصبحت أما..
ستة عشر عاما وأنت هناك وأنا هنا إنها المرة الأولى التي أحمد الله أنك رحلت ولم تعيشي هذا الموت المتسربل إلى أحشائنا فلم نعد نعرف حياتنا من موتنا، أراهن تلك النساء العجائز يقفن عند ناصية الطريق بمساعدة أبناءهن لا يجدن وسيلة نقل للمشفى، فلا يجدون بدا بعد ساعات من الانتظار سوى اللجوء لإحدى المركبات التي تجرها الأحصنة أو الحمير، وحين يصلن للمشفى لا يجدن طبيبا ولا دواء، فالحصار لم يترك حالات حرجة ولا مرضى ولم يلتفت أبدا للعجائز و المواليد، إنه يقول لهن ولهم ببساطة الأفضل أن تموتوا في بيوتكم وعلى أسرتكم.. إنه يقول للأبناء: أنظروا لهن/لهم جيدا وهم يتلوون ألما وهم يموتون، تأملوهم لتبقى ذكراكم الأخيرة للسنوات القادمة إن بقيتم أحياء..!!
ستة عشر عاما والعبرات تخنقني اشتياقا وحنينا .. حبا وعشقا لك سيدتي..
مشهد مرتبك
عشرة أيام مرت كعشرة أعوام، عشرة ثواني كانت الأم ميسر جالسة صباحا وقد أعدت ما قد يسمى إفطارا لأطفالها الأربعة، كانوا يجلسون على الحصير وتحاول أيديهم الصغيرة الوصول لشىء يؤكل، وضحكات الصغير تتلألأ في المكان المعدم، وكانت ميسر تنقل نظراتها المشفقة على صغارها الجوعى وتبتسم والرضيع يلثم رضعته في حضنها، كان صباح ربيعي تحول في ثوان معدودة إلى موت وأشلاء فقذيفة إسرائيلية اقتحمت جدار البيت المتهالك لتنفجر وسط العائلة الجميلة، بين الأم وأبنائها لتهدي هناء ذات الخمسة أعوام يديها ورأسها إلى أمها ، ولتحتضن قلب ردينة التي لم تتجاوز الستة أعوام، بينما مسعد الرضيع بات جزءا من رحم أمه مرة ثانية ليمتزج الدم والأشلاء، ويبقى صالح ذي الأربعة أعوام قسمين أحدهما بين أحضان عائلته والنصف الآخر ملتصقا ببقايا الجدران المتهالكة ليبقى شاهدا للتاريخ على جرائم الاحتلال الإسرائيلي.. كان الحليب أبيضا قبل ثوان وبات دمويا أكثر من الدماء، وبقايا الأجساد البشرية تحط رحالها في كل ركن من البيت الفقير، أهداهم الاحتلال إفطارا خالدا في يوم جديد من أيام الحصار، وفي صحن الدار..!!!
البداية..المخيم.. هجرة الأجداد..!!
الموت يقف مبهورا منتظرا لهفة الصغار لأمهم، لم يتح لهم المحتل وقتا للخوف أو الهلع، انتزع أرواحهم بعد أن فجر أجسادهم أشلاء متناثرة مع صباحات يومهم الجديد، لم يتح لهم وقتا ليودعوا أصدقائهم، أو أن يبتلعوا لقمتهم المتهالكة، لم يفلح الموت بمنحهم وقتا للحياة، وقتا آخر للموت فقد كان موتا مفاجئا مخيفا للموت ذاته، حاول الموت أن يصحو من صدمته لكن الفاجعة أكبر مما عهد ورأى.. فبقايا الصغار وأمهم والجثث المشوهة في أركان البيت لم تترك له وللآخرين وقتا للبكاء، فقد رحلوا جميعهم سريعا وتركوا الألم والمشهد الدامي فحسب.
مشهد سابق:
الناس نيام في شمال غزة وعلى ساحل المتوسط، إلا هم عيونهم الحمراء تضىء المكان بقنابلهم الضوئية يوما بيوم ليلة بليلة، إنهم يتقدمون بدباباتهم ومجنزراتهم الحاقدة من بيت حانون، كلما فشلت مساعيهم تقدموا أمتارا ليشيعوا الموت والدمار بين البيوت المتهالكة، وهاهي ميسر تنحني تغطي صغارها، وتهدهد الرضيع فقد لازمه الأرق والبكاء كأنما يدرك أنها ليلته الأخيرة في هذه الأرض وعائلته الصغيرة، تناهت لمسامعها هدير الدبابات لكنها اعتادت هذه الاقتحامات، فالأصوات بعيدة، والناس نيام، ظلت تهدهد الصغير حتى غفا، وجاءها الصباح نهضت بتعب وتوجهت للصلاة داعية الله بالفرج القريب، فقد طالت ليال الحصار، وطال الأرق والسهد، وطال طعم الزعتر والخبز القاسي، وطالت أيام الفقر والحرمان، والهزال يصيب صغارها، ودعت الله في سرها وبصوتها الخافت: اللهم أزل الغمة.. اللهم أفرج كربنا.. زقزقة العصافير والشمس تجتاح عيون الصغار بسرعة مفاجئة، فالدار مكشوفة بالكاد يستر بعض الغرف الاسبست المتصدع.
هاهم يستيقظون ويلعبون حولها وتضع بضعة صحون وأرغفة حاولت جاهدة تسخينها على النار.. تناديهم وفرج قريب يلوح في الأفق.. يتحلقون حولها وتبدأ المجزرة وتنتهي في جلسة إفطار، ليأت الفرج للعائلة بأكملها من حيث لا تدري..فهل من يسمع، هل من يرى..!!!
إنهم الآن في السماء الأم وأبنائها الأربعة يحتسبون عند الله ظلم البشر..!! وتركوا لجيرانهم ووطنهم حلم نازف للعودة لديارهم..إلى البلاد التي أصبحت الآن لدولة الاحتلال..والموت لازال يلاحقهم حتى في مخيمات اللجوء..!!
إرسال تعليق Blogger Facebook