بقلم: هداية شمعون
الحاجة حليمة ذات الوجه الأسمر واللكنة البدوية رغم أني قابلتها في إحدى مستشفيات مصر إلا أنها كانت تتكلم البدوية بسجية وباللهجة الفلسطينية، حين زرتها وصديقتي في المرة الأولى أدركت أنها إمرأة في ورطة لا يحسدها عليها أحد، فهي مريضة وعانت الأمرين حتى تمكنت من الحصول على تحويلة من غزة للعلاج بمصر، وحظها العاثر أنها حين دخلت الجانب المصري قاموا بإجبار زوجها على العودة فليس لديه التنسيق اللازم كمرافق، ولأن السفر كان بهدف علاجها ولأنها محولة باسم السلطة بغزة فقد طمأنها زوجها أنها يجب أن تذهب للعلاج، إنها تقبع الآن منذ ثلاثة أشهر في ذلك المشفى، لكن المفاجأة أن الطبيب المختص قال أن لا داعي لبقائها بالمشفى لأنها ستأخذ فقط 30 جلسة إشعاع لمدة ثلاثون يوما ومدة الجلسة لا تستغرق العشر دقائق، لذا يجب أن تغادر لمكان آخر لأن هناك الكثيرون أجدر أن يكون لهم سرير بالمشفى، وباءت كل محاولاتنا بالفشل إقناعه أنها امرأة وحيدة في بلد لا تعرف فيه أحدا، وأن مفهوم التحويلة المرضية هو وجود سرير للمريضة بالمشفى للعلاج والإقامة حتى تنهي علاجها، إلا أن ذلك لا يعني شيئا للطبيب إذ أن قائمة المرضى أمامه تحجب عنه رؤية الحالة الإنسانية التي أمامه.
من جهة أخرى حاولت صديقتي جاهدة أن تقنعها أن تمكث في بيتها لكنها أبت، فالمسافة تتجاوز الساعة والنصف لبيت صديقتي، وهي امرأة هرمة لا تعرف شيئا في طرقات مصر ولا تملك نقودا لمصاريف المواصلات، ولا تملك الصحة لذلك، والأكثر ألما أنها امرأة تعتبر أن الأمر فيه إلزام للآخرين بها ولم تكن لتحتمل أن تكون عبأ على أحد فعمرها الذي تجاوز الستين يجعلها ترانا صغيرات، حياتنا في الدراسة والعمل ولم تقنع بكل محاولاتنا، لذا تملصت من قرار الطرد من ضيافة المشفى بأن تحاول التعرف على الجرحى الفلسطينيين وتدعي أنها مرافقة لأحدهم، وفي مرات كثيرة كانت تنام في ممرات المشفى الكبير، أو تعطف عليها إحدى المريضات في المشفى فتجعلها تنام على غطاء بجانبها على الأرض بعد أن يمر الأطباء، ودموعها تبلل الأرض الباردة من تحتها، وقد تربع المثل في رأسها" مين طلع من داره تقل مقداره!!".
تجلس على أحد مقاعد الانتظار في بهو المشفى في الدور السادس، تنظر لنافذتها الوحيدة منذ ثلاثة أشهر حيث المشهد يطل على النيل ترى فيه أبناءها وبيتها وأيامها الخوالي، تظفر عيونها بالدمع للساعات الطوال التي تقضيها لاجئة في المشفى الكبير من ممر لآخر، ومن ضيافة جرحى فلسطينيين لضيافة مرضى مصريين، الجميع يود مساعدتها لكن القرار ليس بالعواطف، والواقع أن الحاجة حليمة وحدها من يقع عليه الضرر المباشر، الأمر الذي ينهك قواها ونفسيتها ويزيد وجعها وألمها الجسدي والنفسي.
الحاجة حليمة لا تملك سوى جوال مصري يهاتفها عليه زوجها المقطع قلبه بينها وبين بقية عائلته، وقد عانت مرارة الأيام علها تنتهي من هذه المأساة إلا أنها لم تدرك أن فصول المأساة قد بدأت حين اكتشف الأطباء في الجلسة الخامسة والعشرين أن جميع الجلسات العلاجية أعطيت لها خطأ، لا أدرى بأي حال غدت الآن!! كانت تود أن تحزم أمتعتها وتعود معي لغزة لتموت في بيتها ولا ترى ما تراه!! الحاجة حليمة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، المرضى الفلسطينيون بالعشرات ينامون في الحدائق العامة، وعند المعارف والأغراب، بعضهم يتجه لمنطقة سكنية تسمى حي السلام على افتراض أنها مغطاة التكاليف من قبل السلطة الفلسطينية ويصفها من كان فيها، أنها عبارة عن شقة ينام فيها العشرات من المرضى في ظروف غير إنسانية.!! الوضع لا يعكس واقعا هزيلا عند الآخرين بقدر ما يدق ناقوس الخطر والخشية على كل من يتصورون أن الجنة هي تحويلة للخارج!! إن الفخ الذي صنعته الحكومتان العريقتان ويدفع ثمنها المرضى من ألمهم وخوفهم وتشردهم مرة أخرى خارج أوطانهم طمعا في لمسة سحرية لطبيب مخضرم أو جلسة تزيل الألم العضوي ما هي إلا أحلام في عقول أصحابها، فلو أن المريض يدرك ما هو ذاهب إليه ربما فكر مليا قبل أن يقبل بمعاناة أشبه بالمخاض حين يحاول السفر خارج الوطن.. إنها كلمة حق لسلاطين جاروا على الخلق وجاروا على أضعف خلق الله بقراراتهم الهزيلة ..رفقا بمرضاكم ورفقا بأنفسكم يوم تلاقون خالقكم.
وتعرف المادة (12) من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحق في الصحة على أنه:" حق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية يمكن بلوغه".
وقد عرفت منظمة الأمم المتحدة صحة المرأة بأنها" حالة من العافية الجسدية والعقلية والاجتماعية، وليست فقط غياب المرض أو الضعف، وتتضمن صحة المرأة عافيتها العاطفية والاجتماعية والجسدية، وتتجدد بالمحيط الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي لحياتها، إضافة إلى تكوينها الجسدي."
إن أبسط المعايير والمبادئ الدولية تنص وتؤكد على حق الإنسان في الحياة وفي تلقي الصحة والرعاية الكافيين كما أسلفنا، ولكنها على أرض الواقع كصرخة في تراب كل ما تنتجه بعضا من الغبار وتضيع الصرخة ولا يتبقى صدى سوى بضع كلمات..!!
إرسال تعليق Blogger Facebook